لم تحمل لقاءات التدابير ذات الأولوية، التي دعت إليها وزارة التربية الوطنية، والتي شارك فيها أساتذة ورجال الإدارة وعدد من آباء وأولياء التلاميذ، الكثير من المفاجئات حيث توقفت عند قضايا التعلمات الأساسية، والهدر المدرسي، والتعليم الأولي. وإن توقفت كثيرا عند ملف التعدد اللغوي وإشكاليته التي لا تزال تقض مضجع المدرسة المغربية.
ما الذي كشفت عنه اللقاءات التي دعت إليها وزارة التربية الوطنية في بحر شهر أبريل الأخير، والتي اعتبرتها لقاءات للتداول في التدابير ذات الأولية؟
وهل نجحت وزارة بلمختار في شعارها المركزي، والذي نادى بالتفكير في المشروع التربوي الجديد تفكيرا جماعيا وتشاركيا ينفتح على جميع الفاعلين في مجال التربية، وخصوصا المدرسون والأسر وممثلوهم من جمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ؟
جل التقارير التي صدرت عن لقاءات التدابير ذات الأولوية، أعادتنا للخلاصات نفسها التي سبق أن أفرزتها الجلسات التشاورية التي كانت قد أطلقتها وزارة التربية والتعليم بشأن مشروع إصلاح المنظومة، حول قضايا كثيرة مما سبق للمخطط الاستعجالي أن تداولها، ووضع لها مشروعا من مشاريعه التي توقفت في منتصف الطريق.
وكاد يجمع أغلب الذين حضروا هذه اللقاءات، بموجب مذكرة وزارية، بعد أن تم تنزيلها إقليميا وجهويا، وفتح بشأنها نساء ورجال التعليم النقاش، على أن الإصلاح لا يحتاج للكثير من الإجراءات، بقدر حاجته لإرادة حقيقية.
وشددت هذه التقارير التي تم رفعها للجنة المركزية لتجميع ملاحظات وتوصيات المشتغلين في القطاع، على أن العودة لمشاريع المخطط الاستعجالي، مع كل الإمكانيات التي تم رصدها لهذا المخطط، يمكن أن تكون هي الطريق السليم لبداية إصلاح حقيقي.
غير أن النقاش الأكبر الذي ظل يثير الكثير من نقط الخلاف، هو ما يتعلق بمشروع التعدد اللغوي نظرا لارتباطه في شق كبير بما هو سياسي. ولذلك عجز المجلس الأعلى للتعليم في نسخته السابقة على الحسم في هذه الإشكالية. وحينما جاء المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم، اكتفى في واحد من مشاريعه التي قاربت الثلاثين مشروعا، إلى «الدعوة لتدريس اللغات والتحكم فيها»، دون الخوض في الإشكالية الأكبر وهي التي تعيشها اليوم الجامعة المغربية التي تفرض على طلبتها، الذين يتابعون دراستهم في الشعب العلمية أن يستعملوا اللغة الفرنسية بدلا من اللغة العربية التي تابعوا بها دراستهم في المرحلة الإعدادية والثانوية.
إن ما تنتطره المدرسة المغربية في مشروع الإصلاح القادم خصوصا على مستوى إشكالية التعدد اللغوي، هو الجواب على سؤال أي تعليم للغات كفيل بجعل الأجيال المتعاقبة لأفواج المتعملين متمكنة من الكفايات اللغوية تواصلا وقراءة وتعبيرا شفهيا وكتابيا؟
وعلى الرغم من شساعة هذا السؤال ومركزيته، إلا أن الجواب يكمن أساسا في أن ضرورة اتقان مختلف أشكال استعمال اللغات، والتمكن من كفايتها، رهين باختيار التدبير الملائم لمختلف الجوانب البيداغوجية المتعلقة بتدريس اللغات وتعلمها بمكوناتها العربية والأمازيغية والأجنبية في إطار ثقافي متسم بالتنوع.
عاد النقاش، في لقاءات التدابير ذات الأولوية، كما سبق أن أثير في جلسات التشاور، حول إشكالية التعدد اللغوي في منظومة التربية والتكوين باعتبارها مرتبطة بطريقة وبأخرى بمهارات وتقنيات التعلم، وبالسبل الكفيلة بالارتقاء بمستوى القدرات والكفايات اللغوية للتلاميذ. وعاد الحديث مجددا عن السياسة اللغوية في المغرب، والتي انطلقت مع الحماية الفرنسية التي فرضت اللغة الفرنسية في الإدارت والمرافق العمومية، في الوقت الذي راهنت على أن تظل اللغة العربية حبيسة الأنشطة التقليدية. ولم يكن الأمر سرا أن جميع الكتب المدرسية ظلت تعد خارج المغرب باستثناء كتب التربية الإسلامية. وهو ما حرك الوطنيين، الذين فتحوا جبهة للتصدي لمحاولات المستعمر الفرنسي طمس الهوية المغربية من خلال اللغة المعتمدة. لذلك كانت خطوة ما سمي بالتعليم الحر الذي سعى إلى تكريس اللغة العربية كلغة للتدريس.
ولم يفوت المشاركون في هذه اللقاءات التذكير بما قامت به اللجنة الملكية المكلفة بإصلاح التعليم في 1957 والتي أوصت، في مذكرتها، باعتماد التعريب، على الرغم من أن القرار الوزاري الذي اعتبر أن التعريب خيار وطني لا رجعة فيه، لم يصدر إلا في سنة 1978 دون أن يفعل إلى حدود سنة 1999 بعد أن طرح السؤال الجوهري حول نوعية التعريب الذي يليق بالمدرسة المغربية هل يكون فوريا أم مرحليا، وهل يعتمد الترجمة أم التحويل.
اليوم يطرح أهل التربية والتكوين الأسئلة نفسها حول إشكالية التعدد اللغوي، وما الذي يجب تفعيله في هذا الإصلاح الذي ننتظره خصوصا على مستوى هذه القضية.
لقد كان عدم تعميم التعريب على كافة الأسلاك التعليمية، خصوصا الجامعية منها، سببا مباشرا في إجهاضه وعدم فعاليته.
ويطرحون مجددا السؤال حول هذه التعددية اللغوية التي ظلت تعتبر مصدر غنى الشخصية المغربية، على الرغم مما قام به المستعمر الذي مس سيادتها، ووحدتها. كما مس أمنها اللغوي أيضا.
كما عاد السؤال عن الصيغة المثلى التي ينبغي أن تنسج بين اللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية في أفق تقويتها لا تفقيرها. وما الذي يجب أن يحمله مشروع الإصلاح لإعادة الاعتبار للغة العربية، وحمايتها من هذا التوظيف المتنامي للدارجة في الفضاء العمومي ووسائل الإعلام. وفي بعض قاعات الدرس أيضا. ومن ذلك هذا الحديث عن أنواع جديدة من شهادات الباكالوريا، والتي انقسم حولها المجتمع بين متحمس لفتح آفاق جديدة للتلميذ المغربي، ومتذمر من هذا التوجه الذي قد يكون على حساب الباكالوريا الوطنية.
لا يخفي الكثير من الدارسين لموضوع التعدد اللغوي في المغرب أن الأمر يصنف في خانة الإشكاليات الكبرى التي لا تزال تأسر منطومة التربية والتكوين، نظرا لتداخل ما هو ثقافي بما هو سياسي. فبالإضافة إلى اللغة العربية والفرنسية، التي لا تزال تصنف على أنها اللغة الثانية في المدرسة المغربية، وإن كانت الإنجليزية تزحف ببطء لتحتل مواقع متقدمة باعتبارها لغة العلم والتكنولوجيا، خصوصا لدى بعض المدارس الخصوصية، طفت على السطح قضية الأمازيغية التي يعتبرها أصحابها لغة قائمة الذات خصوصا بعد أن منحها الدستور الجديد مكانة خاصة، ويرون أن ملف التعدد اللغوي في المغرب لا يجب أن يقفز عنها، خصوصا وقد أصبحت تدرس اليوم في الأقسام المغربية في تجربة فريدة حان الوقت لقراءة نتائجها.
في واحد من اجتماعات المجلس الأعلى للتعليم في نسخته السابقة، عجزت كل مكونات هذه المؤسسة، التي تعتبر برلمان التربية والتكوين، على التعاطي مع ملف التعدد اللغوي بعد أن بررت تحفظها في الحسم فيه بارتباطه بما هو ثقافي وسياسي.
واليوم يطرح المتتبعون السؤال، هل ينجح المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي في نسخته الجديدة، ووفق السلط التي منحها إياه دستور 2011، في الحسم في هذا الملف وجعله واحدا من القضايا الجوهرية للإصلاح الذي تنتظره منظومة التربية والتكوين، خصوصا وأن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل. إنها تمثل للعالم، ومكون أساسي من مكونات هوية الأمة. وهي أيضا أداة حاسمة لنهضة الشعوب وتقدمها. لذلك لا يمكن لأي شعب أن ينجز تقدما حقيقيا بالإعتماد الكلي على لغة الغير. ومن هذا المنطق، وكما طالبت بذلك جل اللقاءات التي فتحتها وزارة التربية والتعليم، أضحت الضرورة تفرض الإرتقاء أولا باللغة العربية، والحرص على جعلها لغة مستوعبة وحاملة للعلم والتكنولوجيا من خلال انفتاح عقلاني على سائر اللغات الحية الأخرى، خصوصا حينما يتعلق الأمر بتدريس المواد العلمية. مع تبني مشروع للترجمة في شتى مجالات العلم والمعرفة، وفقا لسلم أولويات.